نحن الذين عشنا عصر " المؤتمر السوداني "

اذا كان اهلونا ، ورفاقنا وزملائنا ، يبزوننا بانهم حضروا ليلة "المتاريس" في اكتوبر ، وجابهوا نميري في عنف باديته وردته، وغبروا ارجلهم وهم في مارس، وتساقطت دموع فرحتهم في ابريل ، فاننا لدينا ما نقوله لابنائنا ، انا شهدنا بزوغ فجر حزب "المؤتمر السوداني" وسرنا معه كتفا بكتف في مقارعة دكتاتور عصرنا البشير، وسياتي يوم " نتبر" فيه مثل "حجوات" الدكتور عبدالله علي ابراهيم الان .
كان اول يوم تطرق فيه اذني عبارة "الطلاب ألمستقلين" عندما كنت اعمل ساعي -مراسلة- في جامعة امدرمان الاسلامية في الفتيحاب خلال العطلة الصيفية اثناء المرحلة الثانوية ، وكان الاسلاميين في كامل صلفهم وسلطتهم بواكير التسعينات ، كان للمؤتمر متحدث اسمه " الصادق" اعجبني فيه لغته القوية وهندامه الانيق ، ومضيت بعد ان حفر في ذاكرتي اسم هذا التنظيم الجديد ، وكانت الدنيا امة واتحادي وشيوعيين .وكيزان مكروهين .
مضت الايام واخترت طريقي ، لكنني وجدته كبر وشب عن الطوق في سنوات قلائل ولم يعد "مؤتمرا طلابيا " فحسب ، عند تكوين " جبهة القوى الديمقراطية - جاد" في مكتب استاذنا مولانا غازي سليمان -طيب الله ثراه - ويومها كان غازي ملء السمع والبصر ، وصاحب نضالات ، وكعادته في ابتداع طرق المقاومة ، عند عودتي من بورسودان حيث كنت اعمل ، وجدته تجاوز تحالف المحامين لاسترداد الديمقراطية ، وهو يحدثني بتحالفه ( جاد ) الجديد ، وكيف انه تركيبة تجمع بين حزب سانو بقيادة توبي مادوت ، ومجموعات القوميين الجنوبيين ناس بيتر عبدالرحمن سولي ، وحزب المؤتمر السوداني ممثلا ب عبد القيوم عوض السيد ، و ابراهيم الشيخ ، والديمقراطيين ، ويومها كانت سكرتارية التجمع الوطني تغطي بأجنحتها الافاق ، لكني اعجبت كثيرا بهذا التحالف وبادلته المودة " فوق التربيزة وتحت التربيزة " لانه كان يجمع بين نضالات ابناء السودان في شكله القديم (شمالا وجنوبا بكل وضوح تفاصيل خطاب ابنائه من قوميين و وحدويين دون تأفف او استعلاء او استنكار للخطاب الجنوبي ، وصار مركز عبد المجيد امام في "الشعبية" محجة للعمل السياسي والندوات ، ومركزا للمصادمات ، وتوج هذا العمل المشترك الذي كان المؤتمر السوداني في قلبه ، بعقد اول مؤتمر صحفي عبر الهاتف للمتحدث باسم الحركة الشعبية والجيش الشعبي ياسر عرمان ، في مكتب غازي سليمان بشارع الجمهورية ، الذي كان يعج بالجنوبيين بقاماتهم الابنوسية و احلامهم المشروعة في سودان جديد ، وانقض الامن على الحضور ضربا ثم اعتقالا ، في صفوف تحالف "جبهة القوى الديمقراطية -جاد" ومناصريه ومواليه ومحابيه .
ان سعة افق قادة حزب المؤتمر السوداني كانت واضحة جدا خلال هذه الفترة ، وانه حزب صاحب رؤية مستقبلية في ادارة تحالفاته السياسية ، وكشفت الى اي مدى هذا الحزب جرئ ويمضي في منازعة النظام غير هياب من وصمات تلك الفترة " طابور خامس " وغيرها ، رغم انه كان ك" حزب" حديث النشأة نسبيا ، ولكن كرؤية سياسية فهو ضارب جذوره ، في عمق الافكار السودانية ، و اذا كان حزب الامة ينازع ويجادل الاخرين بانه من تراب الفكر السوداني ، فان حزب المؤتمر السوداني من صميم الرؤى السودانية ، ويبز الاخرين بتفرع وتفرهد كوادره يعيدا عن شمس اي طائفة .
صار الحزب بحرفة النمل وبصبر وجلد على مكاره الجبهة الاسلامية ، و اجهزتها القمعية ، يمضي غير هياب او وجل ، ينمي كادره ويغرس بأرجله اكثر و اكثر ويقدم الشهداء من حاضنته " مؤتمر الطلاب المستقلين" مرغني النعمان" ، الذي اغتالته يد النظام في سنار ، التي كان من المفترض ان يعقد فيها مولانا غازي سليمان ندوة سياسية ضمن اطار عمل تحالف (جاد) والمؤتمر السوداني في حرم جامعتها ، وتضاربت الانباء بعد ان لعلع الرصاص ، وانشغل البال على الاصدقاء في التحالف و المحامين في مكتب مولانا ، وفي اليوم الثاني علمنا ما جرى ، وتم تشيع مرغني النعمان في كامل مهابة التشييع.
ولم تهن ل"المؤتمر السوداني" قناة ، ولم يستكين لسيف القهر والقتل ، ومع هذا ظل يضرب الامثال في انتظام تغير قيادته السياسية ، امعانا في ترسيخ قيم الديمقراطية ، ثم جاءت فترة تنفيذ اتفاقية السلام الشامل ، وكنت عدت للخرطوم ، وامتهنت الصحافة وللمفارقة كان لكادر هذا الحزب " المحامي محمد عربي" دور الى جانب (ملاذي) الاول و الاخير المحامي محمد الزين الماحي، وصديقنا المحامي عزالدين عثمان الذين رافقناهم خلال ما سبق من تجاريب ، في ان ادلف لهذه المهنة برفق ، و كانت الدنيا "نيفاشا " و "قاهرة " و "تجمع" و"برلمان" لكن " المؤتمرجية" عفت نفسهم ، و مضوا الى شعبهم ياكلون معه من خشاش الارض ، وعندما نادى المنادي لمؤتمر " جوبا" لوحدة المعارضة نفروا خفافا غير متثاقلين ، وولدت "قوى الاجماع الوطني" و "المؤتمر السوداني " في قلبها ، يسعى للوحدة ايمانا وعملا ، ويهش على الانقاذيين والانفصاليين بعصاه .
ثم تابعنا خلال عملنا الصحفي ، عندما تدافعت مناكب الاحزاب ، حتى عبدالله على ابراهيم نحو المفوضية طلبا ل "الرئاسة" ، مضى الحزب الذي يعي جيدا حرفة النمل وعدم حرق المراحل ، وقدم رئيس حزبه ابراهيم الشيخ لانتخابات برلمانية جغرافية ، في مدينة النهود ، مقدما تجربته ومنازعة حزبه للتزوير ، وكم كتبنا عن ضيق سلطة الجبهة زرعا بمنازلتهم للأمن في واحدة من ارياف السودان المنسية ، التي بادلت هذا الحزب وفاء بوفاء ، وكانت قاب قوسين او ادنى من ايصاله الى البرلمان ، ثم انسحب مرشحوا الرئاسة ابطالا للتزوير و اكساب النظام شرعية زائفة ، كانوا عند الميعاد حافظين للإجماع الوطني وحدته وما كان لهم ان يشذوا وان اختلفت التقديرات من خطوة الجميع هذه ، وسياتي يوم ونقيم كل هذه "الاسنحابات".
وفاز البشير ، وكانت جنوب كردفان وانتخاباتها ، وكان المؤتمر السوداني عند الوعد يجول ويصول قادته مع رفاقهم في قوى الاجماع الوطني ، مؤازرين معاضدين المرشح عن الحركة الاستاذ عبد العزيز الحلو ، وانطلقت النيران ! معلنة الحرب الثانية في السودان ، وكانها قامت لتجمر " المؤتمر السوداني" الذي توهج وكالعادة و "المحريه فيه" اختط لنفسه مسار وخطاب سياسي ، يطلب ايقاف الحرب ، ويسعى للسلام بغير مداهنة ايمانا واقتناعا ، واقتدارا على الخطاب .
وبنفس الجراءة السياسية المعهودة فيه مضى الى توقيع " الفجر الجديد" بانيا مع الاخرين تحالف اكبر ، ومحتفظا لنفسه بشخصيته السياسية ، ودفع الثمن اعتقالا وتنكيلا ، وعندما تلجلج البعض ، استقام على العهد و اوفى بالمواثيق ، وما افة السودان الا " التمادي في نقض العهود والمواثيق ".
ظل هذا الحزب الذي استطال بنضالات ابنائه وبناته ، رقما لا يستهان به ، مؤمنا بوحدة قوى المعارضة كخط سياسي ومبتغى سامي ، رغم العصى التي كانت توضع في دولابه ، التي ظل يتجاهل صغائرها ويمضي غير هياب ، نحو باريس وميثاقها وفتحها الابرز ، وفي اديس ابابا التي هبطت ارضها قادما من لندن في نوفمبر 2014 ، التقيت كادرها تعلوهم غبرة المخاطبات السياسية مع الجماهير حيث كانت واقامت ، بعد ان اختطوا لنفسهم نهج جديد بالدفع بكادرهم حاثا السودانيين ، ليخرجوا على الطاغية ، ومبصرا لهم بحقوقهم وتقصير السلطة في حقهم ، في "السلمة ؛ والدروشاب ، والعزوزاب ؛ وامبدة ، ومايو والكلاكلات " وفي نيالا و"كلمة وعطاش وسريف عمره " صدحوا بعالي الاصوات حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب " .
اتوا اديس ابابا وهم مثقلين بالاعتقالات ، وب " سبتمبر" التي كانوا في قلبها ، وغصة في حلوقهم على شهدائها في شمبات و بري و في امبدة والثورات ، مذهولين من جراءة الطاغية في قتل شعبه ، مؤمنين ان الثأر لن يتأتى الا بوحدة مكتملة الاركان والدسم في جسم المعارضة ، وكان الميلاد" نداء السودان" الذي شهدت بأعيني كيف سعى له هذا الحزب موطئا اكنافه ، للوصل الى هذه الغاية النبيلة ، و سيأتي يوم ايضا لنكتب بالتفصيل عن هذا الدور.
والعام الماضي عندما اقام هذا الحزب مؤتمره ، وضرب للناس مثلا ، في تداول السلطة داخله ، و دافعا بشبابه الفوار الى مقدمته ، علمت واستيقنت وكتبت ان هذا "المؤتمر السوداني " حزب قادم من المستقبل ، ويجب ان ترفع لعضويته القبعات ، لكنهم ما بطروا ومضوا الى الطرقات من جديد ، مواصلين فعلهم السياسي ، وغيرتهم على وطنهم ، غير متكاكين او مولولين من الاعتقالات التي استهدفتهم بها السلطة الغاشمة ، حتى صار تغيير "البروفايلات" شبه محتكر لهم ، وفي " الجامعة " الخرطوم ، كانوا عند الوعد ، وكان سجين الظلم " عاصم " وكانت "وفاق قرشي " ، مع الصبايا العيونهم برقهم لماح وسؤالهم رد خفاف ولطاف و وثابين اوان الجد، من بنات و ابناء شعبنا .
عند معركة الزيادات الاخيرة ، وهي معركة مستمرة ونتمناها الاخيرة ، قبل ان يعود الطاغية الى مضجعه بعد ان رفع الدعم عن اخر خطوط الدفاع عن البقاء في الحياة لشعبنا ممثلة في الدواء ، ووضع حمل تمويل مليشياته ، وجيش وزرائه وسفه قادته ، على ظهر شعبنا المغلوب على امره والغالب بإذن الله ، شفنا (حبيب بنريدو اتجلى) " خالد سلك" نائب رئيس الحزب و دهبه المجمر بالنضالات ، في صبيحة اليوم التالي يرفع رايات العصيان ، ويقرع الطبول حتى لا ينيخ الطاغية بكلاكله على ظهر الشعب السوداني ، لتعيده اجهزة الامن الى معتقلاته التي اعتاد عليها ، ويتبعه قادة الحزب السابقون واللاحقون ، ابراهيم الشيخ وعمر الدقير و طبعا عبدالقيوم .
ان هذا الغضب العظيم الذي يتخلق ، وان بذرة الوعي التي اطلت براسها في " العصيان المدني" لحزب المؤتمر فيها سهمين وقيراطين زرعهم بنضالاته وثقة القدرة على الفعل التي ظل يبثها بين الناس ، ان قدر الله ثم الشعب اسقاط البشير في الاشهر القادمة ، سيكون محتوما ان هذا الحزب سيكون له شأو كبير ، في اي عملية ديمقراطية قادمة منفردا او من خلال تحالفاته " الاستراتيجية " التي اوفى وصبر عليها ، وان تأخرت لحظة التغير الحتمية ، سيخرج قادة المؤتمر السوداني مرفوعي الرؤوس ، مجللين بالتقدير ، وسيعود خالد سلك ورفاقه الاماجد " يملأون العالم ضجيجا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء."

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .