اضطراب ضغوط مابعد الصدمة (السودان نموزجا)



Post Traumatic Stress Disorder PTSD
على الرغم من أن السودان قطر مميز من حيث المساحة وتوفر الخيرات الطبيعية من مراعي ومياة وصحراء وثروات حيوانية ومعدنية وكوادر بشرية ، الا أنه يصنف كدولة نامية تكثر فيها الصراعات والحروب والفقر والأمية ، وفي ظل تلك الظروف تتصاعد وتيرة الأحداث السالبة التي ينجم عنها انتشار الأمراض العضوية والنفسية ، الا أن الأمراض العضوية تتسم غالبا بالوضوح في أعراضها وعلاجها بعكس الأمراض والاضطرابات النفسية والعصبية التي يكتنفها الغموض لقلة التوعية والخبرة في هذا المجال ومن جانب آخر لطبيعة الأمراض نفسها .
من المهم تسليط الضوء على تلك الأضطرابات والأمراض النفسية ، لأنها نتيجة حتمية لظروف بعينها عانى منها المجتمع السوداني لعقود طويلة ، على الرغم من عدم وجود احصائيات دقيقة لدى الجهات المختصة " مستشفيات ، وزارة الصحة ، وزارة الشؤون الاجتماعية .. ألخ " الا أن التفسير العلمي لايدع مجالا للشك في أن تلك الاضطرابات متزايدة ومتشعبة في كل بقاع القطر . من أبرز تلك الأضطرابات وأهمها مايعرف ب " اضطراب ضغوط مابعد الصدمة " .
وتكمن أهميتة في الآتي :
_ كل الأسباب التي تؤدي له توفرت أو مازالت متوفرة في القطر .
_ معظم المناطق التي تتوفر فيها الأسباب المباشرة ، تعاني من الأمية بنسبة كبيرة جدا ومن تدهور الخدمات الصحية . مما يجعل اللجوء للأسطورة والخيال والدجل والشعوذة ، خطوة أساسية في تفسير وعلاج المشكلة ، فتزداد تعقيدا .
_ قد لا تظهر أعراض المرض الا بعد فترة طويلة من وقوع الحدث المسبب مما يجعل هناك صعوبة في الاكتشاف والتشخيص وبالتالي تأخر العلاج .
_ وأيضا خطورته في أن أعراضه ذات مدى طويل قد تصل من شهور الى سنوات وتتخلل حياة الفرد وتؤثر على نشاطه اليومي بشكل مزعج جدا ومؤلم .
_ قد يؤدي تأخر العلاج أو اللجوء للعلاج بالدجل والشعوذة الى وفاة المريض .
_ أما وصمة العار الاجتماعية فهي عامل أساسي في عدم اللجوء لعلاج تلك المشكلة بطريقة علمية متخصصة ، وهو عامل مشترك في كل الأضطرابات والأمراض النفسية .
ان الحدث الذي كان صاحب الفضل في اكتشاف هذا الاضطراب وتشخيصة وتصنيفه وتفسيره وايجاد العلاج له ، هو أنه وبعد مرور 15 سنة على الحرب الفيتنامية أكتشف أن نصف مليون محارب أمريكي يعانون من اضطراب ضغوط مابعد الصدمة كما أن دراسات أخرى مهمة توصلت الى أن أعدادا كبيرة من المواطنين الفيتناميين والكمبوديين الذين عانوا لعقود طويلة من الحروب الأهلية مصابون بأعراض هذا المرض النفسي . كما يقال أن 20%من سكان كمبوديا البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة أصيبوا بهذا الاضطراب جراء الفظائع التي ارتكبها "بول بوت" . وأيضا ماتوصلت اليه الدراسات بشأن سكان يوغسلافيا السابقه أن 25%من سكانها الذين شهدوا الحرب العرقية يعانون من اضطراب ضغوط مابعد الصدمة . " بتصرف من مقال علمي للأختصاصية النفسية الاستاذة مروة شيخ الأرض " منشور بشبكة الانترنت بتارخ 6 / 4/ 2009 .
فاذا كان هذا هو وضع تلك الدول بعد حروبها التي استمرت جميعها لفترة أقل من فترة الحرب في جنوب السودان فكيف نتوقع أن يكون الوضع ؟ ناهيك عن عدم توفر البحوث للاكتشاف المبكر . فلنتطرق بالتفصيل للأسباب المباشرة المؤدية لهذا الضطراب ثم ربطها بظروف السودان .
الأسباب المباشرة :

كشفت الدراسات والبحوث أن أكثر الناس عرضة لهذا الاضطراب هم ضحايا الحرب ، وأن أهم الاسباب المباشرة هي :
1/ الصدمات من صوت القنابل
2/ مشاهدة أحداث مؤلمة مثل موت شخص أو موت حيوان أو اندلاع الحرائق أو مشاهدة حادث اغتصاب أو تعذيب . أو رؤية شخص مجروح أو مصاب اصابة بالغة خصوصا اذا كان من ذوي القربى
3/ الاصابات المؤدية لفقد الأعضاء الحركية أو بترها .
4/ التعرض لفقدان الأهل أو العشيرة ، أو تدمير الممتلكات الخاصه مثل المأوى والمنزل .
5/ تغيير مفاجيء في الوضع الاجتماعي للشخص .
6/ التعرض للاجرام .
7/ التعرض لكارثة طبيعية مثل الزلازل والفيضانات والسيول .
بتصرف من المرشد التشخيصي " ( DSM-III-R , 1987 ) الطبعة المنقحة . و المرشد في الطب النفسي اعداد نخبة من أساتذة الجامعات في الوطن العربي ص 179الناشر منظمة الصحة العالمية 1999م .
وعليه يمكن القول بأنه اضطراب نفسي ينشأ بسبب صدمة مادية أو نفسية أو كليهما .

الظروف المولدة للأسباب المباشرة في السودان :

واذا نظرنا الى واقع السودان بشيء من التفصيل نجد أن الأسباب أعلاه متوفرة بقدر كبير بل تكاد تكون منتشرة ومتجزرة في المجتمع كالآتي :
_ حرب الجنوب التي اندلعت في العام 1983 واستمرت لأكثر من خمسين عاما، فضربت الرقم القياسي كأطول حرب في تاريخ أفريقيا ، نتوقع كم من الآلاف من البشر تعرضوا لفقد الأعضاء أو فقد الأهل أ والتعذيب أومشاهدة المناظر المرعبة ، سواءا كانوا من المواطنيين المدنيين أو الجنود المقاتلين .
_ الحرب في دارفور والتي اندلعت في العام 2003 ، والصراعات القبلية التي اندلعت بين العرب والمساليت في عامي 1998_2001 ، وأيضا بين الفور والعرب في عام 1989م والتي وان خمدت فذلك بشكل نسبي متأرجح مع التحولات السياسية . فأيضا كم خلفت من الفقد للمأوى وسماع أصوات القنابل ومنظر الدماء والقتل والتغيير الأجتماعي المفاجيء من المسكن الأصل الى بيئة المعسكرات .
_ تهجير أهالي حلفا من شمال السودان الى شرقه لتسهيل قيام السد العالي في مصر، في العام 1964. حيث كان هذا التهجير نقلة مفاجأة وكبيرة جدا للأختلاف الشاسع مابين البيئتين ، ولأنه اضطر المواطنين للتخلي القسري عن موطن حضارتهم التي ألفوها مدى عمرهم وولدوا فيها وشيدوها فتجذرت معانيها وشكلت وجدانهم وقيمهم وتعاملاتهم ، فأصبح ذلك بمثابة الصدمة ، والتي عبر عنها الأستاذ حسن دفع الله في كتابه * " هجرة النوبيين " واصفا مدى الحزن العميق الذي ساد أجواء الرحيل وصرخات الوداع والدموع عند حراك القطار في فجر السادس من ياناير 1964م .
فهنا تعتبر النقلة الاجتماعية سببا مباشرا لتوليد الصدمة وكذلك الاحساس بفقد الموطن .
* " الفصل التاسع عشر بعنوان اللمسات الأخيرة لما قبل الرحيل " . والفصل العشرون " التهجير " . تأليف الأستاذ حسن دفع الله ترجمة عبد الله حميدة .
وكذلك من الأدبيات التي وصفت تلك الصدمة وعكست حادثة واقعية آناء التهجير ، * ملحمة الأستاذ الشاعر النوبي " ابراهيم عبدة " ، التي وصف فيها حال أحد المواطنين الذي أصبح يتصرف بطريقة غريبة عند الرحيل فصار يهزي وهو مذهولا وجاحظ العينين ويردد عبارات باكية تحن الى الموطن ، حتى توفى جراء الصدمة التي عولجت بطريقة غير علمية ، حيث تم تقييدة على جزع شجرة من فرط الحالة الهستيرية التي تملكته .
"المرجع مقابلة مع "الأستاذة سعاد ابراهيم أحمد الناشطة النوبية المعروفة في قضية تهجير أهالي حلفا " .
_ ومن الأسباب أيضا الانتقال المفاجيء من وضع اقتصادي الى وضع آخر ، وهذا حدث في مطلع التسعينات عند احالة الآلاف من المواطنين للصالح العام بشكل مفاجيء وأيضا تشريد العاملين بالقطاعات المختلفة بسبب سياسات الخصخصة ، فعندها فقد هؤلاء مصدر رزقهم وتدهورت ظروفهم المعيشية وبالتالي علاقاتهم الأسرية وتفاعلهم الاجتماعي ، * واستنادا على بعض الدراسات الاحصائية أنه في العام 1990 حتى 1997 كان عدد المعرضين لتنفيذ قرار الصالح العام أكثر من 350 ألف مواطن ، وأيضا الذين فقدوا وظائفهم بسبب الخصخصة يتجاوز عددهم 400 ألف مواطن في فترة التسعينات .
* المرجع مقابلة مع البروفيسور ميرغني عبد العال حمور أختصاصي التنمية البشرية بجامعة الخرطوم ، معهد دراسات الادارة العامة والحكم الاتحادي .
_* بالاضافة الى الصدمات الناتجة عن ارتفاع نسب الطلاق في الآونة الأخيرة .

_ ونجد حاليا الحرب التي دارت في جنوب كردفان والتي بنفس القدر ينتج عنها آلاف من المواطنين والجنود واسر الجنود الذين تعرضوا للأحداث آنفة الذكر .
كل ذلك يجعل المجتمع السوداني معرض بشكل كبير لانتشار " اضطراب ضغوط مابعد الصدمة وغيرة من الظروف المرتبطة بطبيعة الدولة النامية من ضغوط معيشية وتفشي الجريمة وادمان المخدرات ، ومن المؤسف أن مستوى الخدمات النفسية في السودان غير قادر على تلبية الاحتياجات الصحية التي تتناسب مع انتشار الأمراض والاضطرابات ، وكما تطرقت سابقا فان معظم المعالجات تتم بشكل غير علمي وتقليدي مثل اللجوء للدجل والشعوذة مما يفاقم المشاكل لحد فقد السيطرة عليها . وخسران الكوادر البشرية التي يمكن أن تساهم في تنمية البلاد ورفعتها .

تعريف اضطراب ضغوط مابعد الصدمة :
*يمكن تعريفة بحسب النسخة المنقحة للمرشد التشخيصي ( DSM-III-R , 1987 ) كالآتي :
بأنه أي حادثه تكون خارج استجابة مدى الخبرة المعتادة للفرد ، وتسبب له الكرب النفسي وتكون استجابة الضحية متصفة بالخوف الشديد والرعب والشعور بالعجز .

كما يمكن تعريفة بحسب مجموعة من الأطباء النفسانيين في الوطن العربي كالآتي : *
بانه اضطراب على درجة هامة من الشدة كتفاعل لكرب جسمي أو عقلي جسيم ، والذي يخمد عادة خلال ساعات أو أيام . ووقد يكون مسبب الكرب المعاناة من حادث شديد يحمل تهديدا خطيرا لأمان أو سلامة الشخص أو أحد أحبائه " على سبيل المثال كارثة طبيعية أو حادث أو اعتداء أجرامي أو اغتصاب " ، أو تغيير مفاجيء في الوضع الاجتماعي للشخص " على سبيل المثال موت عدد من الأفراد ، حريق بالمنزل ..ألخ " ، وتظهر الأعراض متباينة تباينا شديدا ، ولكن الأعراض النموزجية تتضمن حالة ابتدائية من الذهول مع بعض الضيق في مجال الوعي والانتباة ، وعدم القدرة على فهم المنبهات ، وتشوش الادراك ، وقد يلي هذه الحالة اما انسحاب متزايد من الموقف المحيط " يصل الى حد فقد الوعي التفارقي أو الانشقاقي " أو تهيج وزيادة نشاط " استجابة هروب أو شرود " ، وتشيع أعراض زيادة نشاط الجهاز العصبي المستقل المميزة لقلق الهلع " سرعة ضربات القلب ، التعرق ، التورد " ، وتظهر الاعراض عادة خلال دقائق من حدوث المنبه أو الحدث المسبب للكرب ، وتختفي خلال يومين أو ثلاثة ، وكثيرا خلال ساعات وقد يحدث فقدان ذاكرة جزئي أو كلي بالنسبة للنوبة .

* أعراضه ومعاناة المريض :

أن الشخص المصاب بهذا الاضطراب لهو شخص يعاني معاناه نفسية داخلية تشعره بالألم والضيق النفسي والتوتر لفترات طويلة جدا من حياته ، يكون بسببها غير قادر على الشعور بالحب والسعادة جراء الأحداث المفرحة ، ويعاني قصورا في القدرة على التعبير عن الأنفعالات السعيدة مما يسبب الخلل في العلاقات الحميمة أو الزواجية أو الصداقة أو الأسرية .
وأهم الأعراض تتمثل في استرجاع الأحداث الصادمة بشكل متكرر وقسري أثناء النشاط اليومي أو أثناء النوم فقد يعاني الشخص من كوابيس مفزعة أو يشاهد صور ذهنية أثناء اليقظة لنفس الأحداث التي سببت له الصدمة ، ويكون ذلك الاسترجاع مصحوب بنفس المشاعر المخيفة والمؤلمة لحظة التعرض للحدث في الماضي ، وكأنه يعيش داخل الحدث الآن بكل تفاصيله وتظهرتلك اللحظات عند البعض في شكل نوبات هستيريه أو بكاء أو صراخ .

ان هذا الشخص يتجنب بشكل سافر كل مايمكن أن يذكره بالحدث الصادم ويحاول الهرب منه أو عدم الدخول في أي مواقف قد تذكره به ، مثل مقابلة أشخاص أو مشاهدة برنامج تلفزيزني أو المشاركه في حوار ما .

نوبات الغضب أو الهيجان المصحوبه بسلوك عدواني لفظي أو بدني تمثل أيضا أحد الأعراض المهمة ، ويكون الشخص دائما في حالة حذر وتيقظ على غير العادة . وسريع الاستثاره والانفعال مما يجعل المحيطين يستغربون في أن هذا الشخص انفعل لسبب غير مبرر أو لايستدعي كل هذا الانفعال والهيجان .

يقل نشاط الشخص المصاب وتصبح دافعيته نحو الانجاز منخفضة ، وغالبا مايتخلى عن ممارسة هواياته المحببة ويتجنب الاختلاط بالآخرين حيث يبدأ يفقد علاقاته الاجتماعية وصداقاته وحتى علاقته بأفراد أسرته تتقلص .

ومن المهم الانتباه الى أن وجود واحده من تلك الأعراض لايعني أن الشخص مصاب بهذا الاضطراب وانما وجودها مجتمعة ولفترة طويلة ومعها أيضا أعراض أخرى تصب كلها في خانة الشعور بالقلق والكآبة .
المرجع " النسخة المنقحة للمرشد التشخيصي ( DSM-III-R , 1987 ) *

• العلاج :

ابتدعت بفضل الدراسات والبحوث النفسية وسائل علاجية ناجحة منها العلاج السلوكي المعرفي ومنها العلاج بالعقاقير والعلاج بالاسترخاء . وأهم مايذكر هنا هو أن أكثر الناس احتمالا للشفاء من غيرهم هم الذين يجدون السند الاجتماعي أي الرعاية الأسرية في المقام الأول واهتمام الوالدين والأخوة أو من أفراد العائلة الآخرين أو من الأصدقاء أو الأشخاص الآخرين المقربين اجتماعيا .

مقترحات وتوصيات :

_ على منظمات المجتمع المدني في الفترة القادمة الاهتمام بذلك الجانب الصحي عبر انشاء مراكز تأهيل نفسي واجتماعي متخصصة . مثل * تجربة منظمة ميوزك فور أول والتي هي الآن في التخطيط العلمي المتخصص لتنفيذ برنامج علاج وتأهيل نفسي لفئات معينة من المجتمع ، وكذلك تجربة مركز سيما للتدريب الذي يعمل على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني لضحايا العنف المبني على أساس التمييز النوعي .

أن تتم التوعية عبر وسائل الاعلام المختلفة بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الصحية المتخصصة ، عن أهمية المعرفة بذلك الاضطراب وأسبابة وطرق علاجة وطرق الوقاية منه ، وعلاقتة بظروف الدولة السودانية .

_ أن يتم الاستعانة بتجارب دول أخرى ومتخصصين خارجيين لخلق تدابير علاجية ووقائية ، عبر منظمات ومراكز صحية مختلفة .
التعليقات
0 التعليقات
 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .