الشعارات المقدسة



رغم ان المجتمعات البشرية بدأت تتحول اكثر فاكثر نحو عالم اكثر منطقية و موضوعية فان عالم الشعارات القائمة على الفراغ ما زالت قائمة في العالم العربي و لم نتجاوزها حتى الان. الشعارات مثلها مثل اي شئ اخر تتحول الى دعوات ديماغوجية تلفها هالة من القدسية و لا يتم اقرانها ببرامج عملية حول كيفية تحويل الشعار الى واقع. مطالبنا تغيب عنها المنطقية و هي بدائية و ليس الغرض منها سوى كونها شعارات يصرخ بها السياسيين و يحبونها كثيرا و تثير الحماسة لدى الكثير من الناس. كم من الشباب خرجوا الى الشوارع مطالبين بشعارات مثل "عيش حرية عدالة اجتماعية" و ضحوا بحياتهم او على الاقل تعرضوا الى الاعتقال بسببها؟



الشعارات كانت دائما الوسيلة الشائعة في مجتمعاتنا للتعبير عن مطالب هي في الغالب حقيقية و لكن الشعارات هذه لا تربط بالضرورة ببرامج عملية لتحقيقها, لذلك فهي و ان كانت تثير الحماسة لدى الناس فاننا نرى انها طالما توقفت في حدود الشعارات فانها لن تجدي نفعا و لن توصلنا الى اي مكان. و اذا حاولنا التعمق في هذه الشعارات لاجل تطبيقها فاننا سنتوصل الى استنتاجات يستبعدها للاسف الكثير من السياسيين, و كانهم معنيين فقط باستهلاكها و ليس بتحقيقها.



سنتوقف قليلا عند هذا الشعار و لنرى ماذا يعني ان تطالب ب "عيش حرية عدالة اجتماعية" لاجل توفير الخبز و الغذاء للطبقات الفقيرة فاننا لا نستطيع ان نصرخ بذلك. فالاغذية لا يمكن انتاجها و توزيعها بعدالة على الناس عبر التمنيات, بل ينبغي ان تكون هنالك طريقة لانتاج و توزيع الغذاء. و ان يكون المجتمع منظما على اساس توفيرها و اتاحتها. في ظل اقتصاد السوق الاشياء تباع في الاسواق. و دوافع المنتجين هي الارباح. و لو كان لدى افراد المجتمع ما يكفي من المال لكان اقتصاد السوق سيتكفل بتوفير الغذاء للناس. فالمنتجين يرون ان هنالك حاجة لبضاعة ما و هناك اناس يشترونها و لديهم القدرة على الدفع. حينها ينتجون ما يكفي الاسواق.



المشكلة تحصل عندما لا يكون لدى الناس ما يكفي من المال لشراء الغذاء اما بسبب البطالة او بسبب الغلاء او لاي سبب اخر. حسنا اذن المشكلة لم تعد في عالمنا بسبب شحّة الموارد و عدم توفر الاراضي الصالحة للزراعة و المعدات و التكنولوجيا اللازمة لانتاج الغذاء, بل ان المشكلة سببها تنظيم اقتصادي و اجتماعي لا يسمح باتاحة هذه الموارد للبشر. لان الانتاج مصمم في نظامنا الاجتماعي على اساس الاسواق و ليس على اساس الحاجات.



حسنا لنفترض ان تغيير النظام الاجتماعي عمل مستقبلي و خيالي و اننا نريد توفير الغذاء مع بقاء النظام الراسمالي. كيف سنقوم بذلك؟ في عدد من دول الرفاه هنالك نظام للمعونات تقوم على اساس منح المعوزين الحد الادنى للدخل. و الحد الادنى للدخل يتم اقراره على اساس دفع مبالغ نقدية تكفي ايجار المنزل و العلاج و شراء الغذاء الاساسي لكل فرد من افراد الاسرة. نظام المعونات هذه لم تقرر عبر شعارات بل عبر تقديم موازنة قائمة على نظام ضريبي يوضح كيف سيتم دفع نفقات الدولة و مقدار الاموال الضرورية و موازنة كل ذلك بالارقام و الحسابات. الاحزاب السياسية تدخل الانتخابات في الدول المعروفة بدول الرفاه وهي تعلن عن نيتها مثلا بزيادة الضمانات فتقدم موازنة قائمة على اساس رفع الضرائب. و عندما ينتقدهم خصومهم فانهم يقولون مثلا "ان رفع الضرائب سيؤدي الى تباطؤ السوق" و هكذا يكون نقاشا حول الارقام و الرياضيات و ليس حول الشعارات التي تسبح في السماء.



لنفترض الان ان هنالك حزبا اشتراكيا ثوريا في مصر على سبيل المثال يدعو الى توفير الحد الادنى لمستلزمات الحياة لكل انسان في مصر. و اذا اراد تجنب قتل الشباب في الشوارع بسبب الصراخ لاجل شعارات عائمة, فان عليه ان يقدم برنامجا عمليا بالارقام لكيفية تنظيم الاقتصاد المصري لتحقيق هذا البرنامج. حسب بعض الاحصائيات هنالك قرابة 15 مليون انسان يعيشون في عشوائيات. كيف سنوفر المسكن و الملبس و الغذاء بالمستوى الذي يليق بحياة كريمة في الحد الادنى منه؟ و هنالك على الاقل ضعف هذا العدد من الناس ممن هم بحاجة الى معونات بهذا الشكل او ذاك. و هنالك حاجة الى توفير فرص متكافئة للرعاية الصحية لجميع افراد المجتمع. و غيرها. كم سيكلف برنامجا للرعاية و الضمان الاجتماعي من هذا النوع, و من اين سيتم تمويله؟ و هل من الممكن فرض ضرائب على الشركات تكفي لهذا البرنامج دون ان تؤدي الى هروب الرساميل من البلاد بسبب عدم قدرة الشركات على بيع بضائعهم لارتفاع تكاليفها بسبب الضرائب. هل من الممكن اقتصاديا القيام بعمل كهذا في اطار اقتصاد السوق؟ لا بالطبع و اذا كان ممكنا فليتوقفوا عن الشعارات و ليقدموا لنا الارقام بدلا من ذلك.



للقيام ببرنامج للاصلاحات من هذا النوع فاننا بحاجة الى جهاز بيروقراطي ضخم, كيف بمقدورنا تنظيم هذا الجهاز و تجنب الفساد في نفس الوقت؟ اما اذا قال احدهم بانه يريد الغاء اقتصاد السوق فان هذا اقتراح معقول. و لكن دعونا نفكر في معنى ذلك. هل سنقيم اقتصاد الدولة على النمط السوفيتي الذي انهار بسبب عدم كفائته؟ هل سيبقى النظام القائم على النقود؟

كيف سننظم الاقتصاد لكي نوفر الحياة الكريمة للناس؟ كيف نقدم برامج عملية سواء ضمن اقتصاد السوق او خارجه يتحقق فيه العيش و الحرية و العدالة الاجتماعية. فهذه ليست شعارات للاستهلاك السياسي و الحزب او المنظمة التي تشعر بالمسؤولية الاخلاقية تجاه الناس و حياتهم لا ينبغي ان تكتفي بالشعارات و دفع الناس الى الشوارع و التضحية بحياتهم لاجل الدعوة الى اشياء لا يعرفون كيفية تحقيقها. عليهم ان يفكروا قبل ذلك في كيفية اعادة تصميم و بناء هذا الواقع لكي يتحقق فيه هذا الذي يطالبون به. علينا اكثر من اي وقت مضى ان نراجع مسلماتنا و شعاراتنا المقدسة و القيام و لو لمرة واحدة بعمل صحيح لاجل هؤلاء البشر الذين ندعي تمثيلهم فنفكر في كيفية بناء واقع افضل. كيف سنقوم بانتاج حاجات البشر و توزيعها بما يحقق الرفاهية و الحياة الكريمة لهؤلاء الذين ندعي اننا نمثلهم؟ ما هو شكل هذا الاقتصاد؟ كيف من الممكن ان نجعله عادلا فيحصل الجميع على كل ما يحتاجونه؟

التغيير ليس عبارة عن تغيير الحكومات و الانظمة, التغيير الحقيقي عبارة عن تغيير نمط الحياة و نوعية الحياة لجميع السكان. فلنبحث عن افضل طريقة للقيام بذلك بدلا من انتقاد الخصوم الذين هم مثل غيرهم لا يعرفون طريقة افضل للحياة غير هذه.
التعليقات
0 التعليقات
 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .