سائحون .. طالبان السودان


لأواخر عهد الديمقراطية الثالثة في السودان دار لغط كثيف حول مشروع (الدفاع الشعبي) الذي طرحته الجبهة الإسلامية القومية بهدف إسناد القوات المسلحة ودعمها في قتالها للحركة الشعبية لتحرير السودان التي أمتد عدوانها حتى وصل لتخوم كردفان والنيل الأزرق، وإذ بدا حزب الأمة كالعهد به متردداً مرتاباً تجاه المشروع فقد أعرب الإتحادي الديمقراطي صراحة عن رفضه لفكرة مشروع الدفاع الشعبي من أساسها بل إن السيد محمد عثمان الميرغني مضى شوطاً أبعد وهو يصرّح “بأن إجازة قانون للدفاع الشعبي يعني تقنين الملشيات..” مما جعل الجبهة الإسلامية تصف ذلك الموقف بأنه لا يصدر إلا عن شخص يتحدث لجماهيره في دائرة شندي في الشمال بعيداً عن أصوات دوي المعارك ولهيب نيرانها.
إذن فقد كان الملمح الأول لتوجهات ثورة الإنقاذ وأرتباطها بالجبهة الإسلامية منذ أيامها الأُول هو إجازتها لمشروع قانون (الدفاع الشعبي) الذي انشئ بموجبه مباشرة جسم تنظيمي تولى مهمة “التنسيق” مع المؤسسة العسكرية ثم لم يلبث أن أنفتح معسكر التدريب العسكري للمتطوعين بمنطقة (القطينة) إلى الجنوب من العاصمة الخرطوم، حيث تقاطرت إلى هناك أفواج من خاصة عضوية الحركة الإسلامية وصفها الملتزم ليتخرجوا مقاتلين فيما عرف بكتيبة (الأهوال). ولئن بدا لأول وهلة أن الإعداد المادي لمعسكرات الدفاع الشعبي يشوبه الكثير من القصور والتقصير في البنيات الأساسية المطلوبة لعمليات التدريب والإعداد العسكري إلا أن جانباً آخر من القصور ظلّ غير محسوس فلم تتسلط عليه الأضواء ذاك أن العدة الفكرية والمعرفية من زاد تأصيلي وفقهي لدى من انخرطوا في ذلك المشروع ،مهما خلصت النوايا وتسامت الهمم، لم تكن ضعيفة فحسب وإنما تكاد تكون غائبة لا يؤبه لها في حمأة الحماس المشرئب لخوض معارك الجهاد والجود بالنفس والبدن تطلعاً للظفر بأسمى الأماني “الشهادة في سبيل الله”. ذاك أنه لم يصاحب حركة العمل الجهادي طوال سنوات الإنقاذ الأولى أي قدح للأفكار والرؤى مما يصدر نتاجاً في الفكر والأدب المتصوب إلى ذلك الميدان فتضاءلت فرص نمو الفكر الإسلامي المتجدد وتراجعت تفسح المجال أمام المد الصوفي المتنامي في أوساط المجاهدين مهما تمثلوا بعضاً من تراث جماعة الإخوان المسلمين وأناشيدها الجهادية تبقى الصبغة الطاغية تعلن أنه كلما زاد التصاق الفرد من أولئك بميادين المجاهدة والمصاولة والقتال لاحت عليه بادية للعيان مظاهر التدين الصوفي التقليدي يدل عليها المظهر العام للمجاهدين الذي أرتبط بتعليق المسابح على الرقاب وأرتداء (الطواقي الخضر) على نحو ما يفعل المتصوفة في السودان.
باتساع رقعة العمليات العسكرية اتسعت مشاركة المجاهدين في ميادين القتال وتولدت سراياهم وكتائبهم تحمل مسميات مختلفة سرعان ما أخذت تتأطر وتتمايز داخل مجموعات خاصة ترتبط ببعضها وتستقل بأماراتها وقياداتها وتنحصر عضويتها فتختص ببرامجها التدريبية والقتالية. وإذ كانت مجموعة (السائحون) هي الأولى من نوعها بين تلك المجموعات فقد أتى حين من الدهر تفرعت فيه تلك المجموعات وتكاثرت تلامس الفوضى، تنسب تارة إلى اسم أحد قادة الجيش أو الدفاع الشعبي وتارة تأخذ مسميات من شاكلة (البرق الخاطف، وأبوفاطنة وابن الجموح والطيارين) وغير ذلك من الاسماء والمجموعات.
كان العزم لأول تأسيس مجموعة السائحين أن تتوفر مجموعات من الشباب الرسالي المختار إنتقاء من خاصة عضوية الحركة الإسلامية فتبث في أوساط العسكريين من مقاتلي القوات المسلحة تبرز المثال الإسلامي الرفيع للمجاهد المقاتل في سبيل الله وتهذب من مسالك القوات المحاربة تواضعاً وعفواً وتسامحاً لا يشتط فرحاً يعبر عنه بالنزوع إلى الإنتقام الفادح في حال النصر، كما أنه احتساب بكامل الرضى والتسليم والتحرف لجولة أخرى من القتال في حالة الهزيمة. سوى أن تلك الفئة المختارة من مقاتلي سائحون وجدوا في اختصاصهم بتلك المهمة سانحة توفر لهم نجازة المشاركة في العلميات العسكرية ومنفذاً ينفضون من خلاله الملل والضجر من التحرك البطئ المحسوب للقوات المسلحة أو رهق الإنتظار والإرتكاز في معسكرات الجيش، فأنطلقوا يجوبون المتحركات في محاورها المتعددة يقدمون بصدق وتفاني آيات باهرات من صور التضحية والفداء والإستشهاد في سبيل الله حتى أضحى الإنتماء لتلك الجماعة حلم يراود جميع المجاهدين مهما كانت تلك المجموعة قد أغفلت الثغرة التي وضعت فيها وأنصرفت لميدان آخر. حتى عاجلها قرار القيادة السياسية في الخرطوم القاضي بحل تلك المجموعة وإعادة إدماج أعضائها في كتائب المجاهدين وتكويناتهم العسكرية.. ذات القرار الذي لم تلبث أن أغرقته فوضى المجموعات الجهادية الخاصة التي أنتشرت من بعد وتكاثرت وتشعبت يأخذ بعضها برقاب بعض.. منذ ذلك الحين مثلت (مجموعة السائحين) أشواقاً ظلت دفينة بين أضلع الفئة التي عايشت وعاصرت عهدها وشاركت في مجاهداتها تجتذب إليها أرتالاً من آخرين أسهموا في ذات الميدان وأن لم يتثن لهم الإنضابط في سلك المجموعة والخروج في سراياها وبعوثها، غير أن أولئك وهؤلاء كلهم أجمعون لا يؤلف بينهم اليوم سوى عواطف جياشة ومشاعر خفاقة وأشواق حرّى وعبرات هامية وأدمع سجام أهريقت على مدرجات قاعة فخمة تقع على الضفة الشرقية للنيل الأبيض عند مدينة الخرطوم، سوى أن الزمان غير الزمان والعبرات كانت أكبر من العبر والعظات.
منذئذٍ فإن غياب الرؤية الثاقبة -لما بعد انجلاء المعركة والعود من الجهاد الأصغر- وضمور الرصيد الفكري لدى من اتصلوا بميادين الجهاد والنضال قعدت بهم فجعلت من العسير عليهم أن يطرحوا الأسئلة الصعبة الملحة التي تنتهي بهم إلى الإنتباهات الكبرى ويقظات العقول المتفاعلة التي يمكن أن تنتج النظريات والحلول الناجعة لقضايا السياسة والحكم.
إلى ذلك وفيما بعد فقد مهدت ذات تلك الغيبوبة الفكرية لدى الجماعة الناشطة في ميادين الجهاد مهّدت الطريق سالكاً أمام عمليات الإستقطاب لصالح المشروع الشمولي الأحادي الذي ذهبت إليه فرقة من اسلاميي السودان في أعقاب المفاصلة بين تيارين بالحركة الإسلامية، إذ أنحاز فريق ممن عركتهم ساحات الفداء إلى السلطة القابضة تحت مسوغات الحفاظ على دولة الإسلام والشريعة ذات الشعارات التي ظلت الإنقاذ تتجر بها من بعد ردحاً طويلاً ترفعها كلما حزبها هم أو إبتلاء. إذن فقد غابت في تلك اللحظة الفارقة الأسس والمفاهيم التي تحدد دواعي الجهاد وتعرّف ميادينه وسوحه. وظهرت الحاجة والعوز لفقه عاصم ورصيد معرفي يبين في غبش تلك الفتنة ودخنها أن الجهاد إنما يقوم بالأساس لتميكن أهداف وقيم عليا دفعاً في سبيل الله بالحق والعدل فلا يقع عدواناً يعمد إلى المحافظة على سلطة فرد متجبر أو حزب منفرد متسلط، إنما الجهاد يقوم بالأصل لصون مبادئ وقيم تؤسس عليها دولة الإسلام العادلة فإذا داخل قيادتها طغيان وتعال وأنفراد بأمر العامة وحجر على حرية الناس وطلاقة سعيهم، بطل جميع الجهاد، إلا أن يكون كلمة حق تطرح في جهة سلطان جائر متفرعن ترده إلى سواء الصراط.
جاءت فلسفة (الدفاع الشعبي) تقوم على رؤية متكاملة لإصلاح نظام الجيش ومؤسسته وربطها بالمجتمع المدني المتفاعل الموصول بأعباء الدفاع والذب عن حياض الوطن فلا تنهض لواجبات الدفع والقتال طائفة أو مؤسسة مخصوصة يوكل إليها الأمر ثم تنزوي عن عامة الحياة في معسكراتها وإنما تتكامل حيواتهم مدنية وعسكرية فلا تحتاج الدولة والهئيات إلى رصد الميزانيات وإعداد البرامج الخاصة من بعد لإعادة إدماجهم في المجتمع بعد انقضاء مدة خدمتهم، فإذا كانت تلك هي الرؤية فكيف بمن نهض تطوعاً للمشاركة في ذلك الواجب أن يتكلّس ويتأطر فيظل حبيساً داخل حالة (الجهاد) يتميز عن المجتمع بالنسبة إليه ويتلقب به فهو (مجاهد) حتى من بعد عشرات السنين من نهوضه إلى تلك القضية.
للوهلة الأولى تدرك حجم المأزق الذي يكتنف الحركة الإسلامية السودانية، فإذا قرنتها إلى حركات إسلامية في محيط السودان واقليمه كان قادتها عيال على الحركة الإسلامية في الفكر والتنظيم والتخطيط والإدراة فثمة تبدو المأساة، ففي الوقت الذي تعقد فيه حركة النهضة التونسية مؤتمرها التاسع علناً من بعد كبت وسعة من تضييق وقد تقدمت عبر العملية الديمقراطية وتبوأت موقع القيادة في الحياة السياسية بتونس وفي الوقت الذي حسمت فيه حركة الإخوان المسلمين في مصر رئاسة الجمهورية لصالحها عبر صناديق الإقتراع، تجد الحركة الإسلامية السودانية نفسها تقف على ركام كأنه حطام جبل صعب الذرى، حبيسة رهينة لدى نظام مشبوه متهالك مطارد من قبل شعبه، جوعان يأكل من زادها ويمسكها يواري بها سوءاته، بل إن المفارقة تبدو فظيعة صادمة عندما تجد أن الحركة الإسلامية السودانية لا يجتمع اليوم من قطاعاتها العريضة إلا فئة واحدة، ما جمع ووحد بينها إلا رفقة السلاح وأجترار ذكريات القتل والإقتتال، وهكذا تبدو الحركة الإسلامية السودانية التي أهدت تونس حركة النهضة وبثت في الأرض بذور الحركات الإسلامية الحديثة تجدها قد إرتكست ترذل في كل عام حتى أن طائفة من أبنائها اليوم لا تجد إلا أن تستهدي وتتمثل بمثال حركة طالبان وتجتر تجربة حركة الشباب المجاهدين في الصومال حين سدت منافذ الإستنارة وحجر على الفكر وصودر العلم وحورب العلماء وأغلقت في وجوههم المنابر فالأن يخرج من صلب الحركة الإسلامية من يمشي في السودان بنداء أبو الطيب حين قال:
وَلمْ تَزَلْ قِلّةُ الإنصَافِ قاطِعَةً / بَين الرّجالِ وَلَوْ كانوا ذوي رَحِمِ
فَلا زِيارَةَ إلاّ أنْ تَزُورَهُمُ/ أيدٍ نَشَأنَ مَعَ المَصْقُولَةِ الخُذُمِ
من كُلّ قاضِيَةٍ بالمَوْتِ شَفْرَتُهُ/ مَا بَينَ مُنْتَقَمٍ مِنْهُ وَمُنْتَقِمِ
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .