اتفاقية السلام الشامل بين النظرية والتطبيق

بانتهاء الفترة الانتقالية في 2011 اتضح ان ما ترسخ من قناعات لدى الرأي العام المحلي والدولي حول جدوى الاتفاقية كان خاطئا حيث ان الاتفاقية لم تحقق مقاصدها الاساسية، فبدلاً من تحقيق الوحدة الجاذبة حققت انفصالاً لجنوب السودان، وبدلاَ من تحقيق التحول الديمقراطي والسلام الدائم والتداول السلمي للسلطة كرسًت لاستمرارية الشمولية واستمرار الحرب في دارفور وعودتها في كل من جنوب كردفان والنيل الازرق.

ومع بدء جولة المفاوضات حول المنطقتين: جنوب كردفان والنيل الازرق يصبح السؤال الملح هو: ماهي الدروس والعبر المستفادة من اتفاقية السلام الشامل خاصة بروتكول المنطقتين؟ وكيف يمكن للمفاوضين والوسطاء تفادي عيوب اتفاقية السلام الشامل كنظرية وتطبيق في الاتفاقية المرتقبة حول المنطقتين ؟ معلوم انه عند بداية مفاوضات السلام السابقة كان الخلاف يدور حول ما اذا كانت المشكلة قيد التفاوض هي مشكلة جنوب السودان ام مشكلة السودان ؟حيث يصر وفد الحكومة علي انها هي مشكلة جنوب السودان فقط وان قضية المنطقتين خارج نطاق تفويض الوسطاء، بينما تراها الحركة الشعبية لتحرير السودان ان المشكلة هي مشكلة السودان باكملة وان المنطقتين جزء من الكيان السياسي والعسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان. وبعد ضغط من الوسطاء والمجتمع الدولى واصرارهم علي تحقيق السلام في السودان ثم في نهاية المطاف ادراج المنطقتين في مسار مختلف للمفاوضات والتي افضت الي توقيع بروتكول خاص بولايتي جنوب كردفان /جبال النوبة والنيل الازرق في 26 مايو 2004.

2- بروتكول الولايتين : النظرية والملامح الرئيسية

تم صياغة بروتكول الولايتين في شكل حزم ممرحلة حيث تم ترتيب عناصرها الاساسية ترتيباً زمنياً ومنطقياً.

الحزمة الاولى: تبدأ بالترتيبات الامنية والعسكرية وتنتهي بالمشاركة في السلطة السياسية والعسكرية والقضائية والشرطية والخدمة المدنية في ولاية جنوب كردفان بين حزب الموتمر الوطني والحركة الشعبية بنسبة 55% و45% علي التوالي خلال الفترة الانتقالية مع تبادل دوري بين منصبي الوالي ونائبه.

يعقب ذلك الحزمة الثانية والتي تشمل بسط الامن ونزع الالغام وبدء عمليات العودة الطوعية للنازحين مصحوباً بعمليات تدريجية لاعادة التعمير والتنمية. وتشمل هذة الحزمة ايضاً تشكيل الاليات والمؤسسات المنوطة بمخاطبة الاسباب الجذرية للحرب في جنوب كردفان. ومن اهم هذة المشكلات قضية الارض والنزاعات المرتبطة بها، وترتبط قضية الارض ارتباطاً وثيقاً بألمصالحات الاجتماعية بين المجموعات السكانية المختلفة في المنطقة خاصاً بين النوبة المزارعين والبقارة الرعاة من جهة، وبين هؤلاء السكان المحليين جميعاً مزارعين ورعاة والحكومة من جهة ثانية.

اما الحزمة الثالثة فتشمل عدة عناصر اهمها اجرءات التعداد السكاني تمهيداً لاجراء الانتخابات والانتخابات نفسها خطوة اساسية نحو اجراء المشورة الشعبية كآخر العناصر في هذه الحزمة وباعتبارها آلية يرجى من ان تؤدي الي التسوية النهائية للقضية السياسية في الولايتين. المشورة الشعبية كنظرية وتطبيق تحتاج الي مقال منفصل لاحقاً.

باختصار عناصر الحزمة الاولى كانت شرطاً لتحقيق عناصر الحزمة الثانية (التنمية والمصالحة الاجتماعية) وعناصر الحزمة الثالثة (التعداد السكاني والانتخابات والمشورة الشعبية ) مربوطة ربطاً شرطيا ً مع عناصر الحزمة الاولى والثانية. والاهم والادق من ذلك هو ان عناصر الحزمة الواحدة مربوطة وممرحلة بصورة منطقية وزمنية كما هو الحال في المشورة الشعبية الذي يتوقف علي الانتخابات بينما تتوقف الانتخابات علي التعداد السكاني، والتعداد السكاني يتوقف علي استتاب الامن والرضى السياسي والعودة الطبيعة للمواطنين وادماج عناصر الحركة الشعبية في الحياة السياسية والمدنية والعسكرية والامنية.

هذا يعني ان اي تأخير اوعدم تنفيذ اي عنصر من العناصر يؤدي بالضرورة الي تأخير العناصر التالية ويتزامن ذلك مع توتر سياسي وامني واحتكاك علي مستوى الحزبين وقواعدهما المدنية والعسكرية والسياسية، هذا ماحدث بالضبط في الولايتين اثناء الفترة الانتقالية.

3- ضعف تطبيق بنود البروتكول والعودة الى الحرب

ان المتتبع للفترة الانتقالية 2005 -2011 ومستوى تنفيذ بروتكول الولايتين يلاحظ الآتي :

1- البطء الشديد في تطبيق بعض البنود الرئيسية للبروتكول مثل الترتيبات الامنية والعسكرية والمدنية.

2- تشكيل القوات المشتركة ولكن دون وجود عقيدة عسكرية موحدة وتوجيه معنوي سياسي متفق عليه , فأصبحت القوات المشتركة اشبه بالقنبلة الموقوته وكل طرف متربص بالآخر بدلا من العمل المشترك من اجل توفير الامن وحماية السلام ومكتسباته.

3- الانسحاب الظاهري للجيوش خارج الولايتين مقرونا “بعمليات مستمرة لاعادة تأهيل وتدريب الجيش واعادة توزيعه داخل الولاية خلافا” لنصوص الاتفاقية.

4- تأخير تشكيل حكومة الولاية لاكثر من عام من مواقيتها المحددة في البروتكول.

5- تأخرادماج العناصر المؤهلة من الحركة الشعبية في الشرطة والسجون والامن والقضائية والخدمة المدنية.

6- عدم تشكيل مفوضية الاراضي الي نهاية الفترة الانتقالية من ما جعل عملية المصالحات القبلية مجرد اجراءات فوقية لم تستطع كبح تنامي النزاعات حول الاراضي وبانتشار السلاح اخذت هذه النزاعات بعداً جديداً غالباً ما يكون ضحاياه كثر وآثاره السالبة عميقة.

7- تأخير التعداد السكاني من 2009 الى 2010 نتيجة لخلافات الشريكين حيث اشترطت الحركة الشعبية قيام ذلك بأستتاب الامن وعودة النازحين ومشاركة عناصر في المؤسسات المدنية والقضائية والشرطية المنوطة بتنفيذ عملية التعداد السكاني والانتخابات في المرحلة الثالثة.

8- عدم بدء التنمية الا في الثلث الاخير من الفترة الانتقالية.

9- تأجيل الانتخابات من موعدها وبالتالي استحاله تنفيذ المشورة الشعبية.

باختصار بنهاية الفترة الانتقالية كانت الولاية ومكوناتها السياسية والاجتماعية والعسكرية غير مهيأة لأي ممارسة سياسية قائمة على التداول السلمي للسلطة مثل الانتخابات والمشورة الشعبية. عليه فان ما آلت اليه الامور عند نهاية الفترة الانتقالية وعودة الولايتين للحرب كانت نتيجة حتمية وتوقعها العديد من الخبراء من خلال العديد من التقارير والابحاث المنشورة آنذاك مثل تقرير مجموعة الازمات الدولية المنشورة عام 2008 بعنوان : مشكلة جنوب كردفان بالسودان: دارفور القادمة , وتقرير مسح الاسلحة الصغيرة عام 2008 بعنوان : العودة الي الحرب : الامن والبناء العسكري في جبال النوية , والعديد من الاوراق العلمية لكاتب هذا المقال المنشورة في الفترة مابين 2007-2011بما فيها كتابه باللغة الانجليزية بعنوان: الارض، الحوكمة، النزاعات وشعب جبال النوبة، والصادر من دار جيمس كيرى بلندن عام 2010م.

4- بعضٌ من الدروس والعبر المستفادة من المفاوضات الجارية حول المنطقتين

هنالك العديد من الدروس والعبر المستفادة من تجربة اتفاقية السلام الشامل لعام 2005 وبروتكولها الخاص بولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق.

1- اذا لم تتوفر ارادة سياسية في مواجهة المشكلات الناتجة عن التهميش المركب (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي) لهذه الولايات والولايات الاخرى المشابهة لن تكون هنالك حلول سياسية دائمة لاستقرار سياسي في السودان في المنظور القريب. لن يكون هنالك استقرار سياسي حتي ان تم توقيع عشرات الاتفاقيات ذات الجودة العالية في الصياغة والضبط القانوني المحكم وشموليتها لكل القضايا. فالاعتراف النظري بالمطالب السياسية لهذة المناطق علي الورق شيء وتوفر ارادة سياسية لمعالجتهاعلي ارض الواقع شيء آخر.

2- اي اتفاقية يتم الوصول اليها ويكون الضغط الدولى هو العامل الاساسى فيها تظل اتفاقية غير قابلة للنفاذ بواسطة الفاعلين المحليين.هذا ماحدث في بروتكول الولايتين. ودون التقليل من اهمية الدور الدولى في فض النزاعات وتحقيق السلم والامن المحلي والاقليمي والدولي تظل رغبة الفاعلين الوطنيين في تحقيق سلام دائم هو العنصر الاساسي لاستدامة وفاعلية اي اتفاقية سلام يتم الوصول اليها.

3- تجربة انفصال جنوب السودان علمتنا ان الحروب الطويلة غالباً ماتؤدي في نهاية المطاف الي خلق واقع سياسي جديد يختلف تماماً عن الوضع ماقبل الحرب. بناءً علي ذلك ان لم يتم التوصل عاجلاً لاتفاق سلام في المنطقتين ودارفور فان النتيجة النهائية لهذه الحروب هي اوضاع وترتيبات سياسية جديدة.وفي هذا الصدد تكون كل الخيارات المرتبطة بالمستقبل السياسي لهذه المناطق والسودان بأكمله مفتوحة علي مصراعيها بما فيها حكم فيدرالي حقيقي، حكم ذاتي، تقرير المصير، انفصال، او استمرار الدورة السرطانية: حرب، مفاوضات، سلام مؤقت، ثم حرب، ومفاوضات، فسلام مؤقت ثم حرب. ان توفر الارادة السياسية الحقة حول قضايا السودان المصيرية هي المدخل الصحيح والوحيد للتخلص نهائياً من هذه الدورة الخبيثة.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .