إلى أين تتجه دولة الجنوب ؟


مع انتهاء فرحة سكرة إعلان قيام دولة جنوبية قبل أكثر من عامين فوجئ الجميع بمن فيهم المحتفلون بما سموه باستقلال الجنوب بأن الدولة التي حلموا بها في طريقها للتلاشي ليس بسبب الملفات العالقة بين الشمال والجنوب التي قادت إلى إغلاق آبار النفط وإيقاف تصديره عبر الشمال، وإنما بسبب عوامل أخرى داخلية تتعلق بالحركة الشعبية الحاكمة التي وجدت نفسها في أزمات وانقسامات داخلية في وقت تعاني الدولة الوليدة من أوضاع سيئة ولذلك بدأ الجنوب يتساءلون إلى أين تتجه دولة الجنوب؟ وهل الحركة الشعبية مؤهلة للحكم؟ في ظل هذه الأوضاع؟.
من المعروف أن دولة الجنوب تعاني من أزمات في مجملها نتيجة لتداعيات الفشل في حل الملفات العالقة مع الشمال وفي مقدّمتها الملف الأمني وملف ترسيم الحدود وملف النفط الذي يُعدّ الشريان الرئيسي لاقتصاد الجنوب الذي لا يملك أي بديل آخر عنه، ولكن تفاقمت هذه الأزمات بسبب الأوضاع التي يعاني منها حزب الحركة الشعبية الحاكمة الذي يعاني من انقسامات داخلية متزايدة مما أقعدت الدولة والحكومة والجيش عن أداء دورها خاصة بعد دخول سياسيين قدامى في الحزب.
فهذه الخلافات الداخلية بالحزب هي المعول الهادم للجنوب خاصة أن السياسيين الجنوبيين يعرف عنهم على مرّ العهود الماضية بالشمال منذ الاستقلال إما مسؤولين كبارًا وإما متمردين، وإن هذا الوضع خلق طبقة كبيرة من السياسيين الذين ارتبطوا بالحكومات المختلفة وإنهم لم يتخلوا عن هذه المزايا بعد قيام دولة الجنوب وذهابهم إلى جوبا، والتحاق عدد منهم بالحركة الشعبية الحاكمة ليس حبًا فيها وإنما طلب للنفوذ السياسي الذي تمتعوا به في السودان القديم.
فالواقع الذي يعيشه حزب الحركة الشعبية الحاكمة بالجنوب لا يختلف عن الأحزاب التقليدية القديمة فهو يعيش صراع أجنحة ارتبطت بعضها بالبعد القبلي والاستقطاب الحاد وسط توقعات بأن تؤدّي الخلافات إلى تفكيك الحزب، رغم جهود رأب الصدع من خلال مؤتمر استثنائي للحزب أواخر الشهر الجاري، فكبار السياسيين القدامى لن يتركوا مواقعهم فيما أن الملتزمين حزبيًا بالحركة من المقاتلين الذين يرون أنفسهم أنهم الذين منحوا حقوق الاستقلال للدولة الفتية ولن يسمحوا لهم بالتغوّل على الحركة والاستحواذ على المواقع التنفيذية والسياسية ولذلك فإن الأوضاع مرشحة للانفلات الداخلي ولن يؤثر على الحزب الحاكم الذي ترهل كثيرًا وإنما على الدولة نفسها خاصة أنها تعاني من أزمات اقتصادية وصراعات قبلية وتمرّد داخلي في أكثر من جهة.
من الواضح أن الحركة الشعبية الحاكمة بدولة الجنوب لا تزال عاجزة عن التحوّل من حركة ثورية إلى حزب حاكم، فهي بعدما فقدت مؤسسها وزعيمها الراحل جون قرنق وبعدما تولت الحكم بالجنوب لا تزال تقود مؤسسات الدولة بنظرية الجيش الشعبي التي وضعها جون قرنق الذي لا يزال ظله يغطي الجميع ويطغى عليهم ويشكل نوعًا من القديسة، وأن سلفا كير رغم أنه استطاع أن يقود الجنوب في أدق المراحل وإلى مرحلة الاستقلال إلا أنه يفتقد الكاريزما التي كان يتميّز بها قرنق وأنه لم يستطع السيطرة على أطماع عناصر الحزب من القدامى والقادمين الجدد من كبار السياسيين الذين عملوا بالشمال ولم يخوضوا أي حرب، الأمر الذي أدّى إلى هذا الانفلات المتوقع أن ينفجر خلال المرحلة المقبلة.
فالجنوب قد استقلت وأصبحت دولة قائمة بذاتها ولكنها لا تزال في مرحلة البحث عن مقوّمات الدولة الحديثة من حيث المؤسسات، والاختصاصات، فهناك شكاوى كثيرة أثارتها منظمات دوليّة من أن دولة الجنوب تقتقر إلى الشفافية والحريات العامة، فقد انتشر الفساد بصورة كبيرة رغم تهديد الرئيس سلفا كير بكشف المفسدين ومطالبتهم علنًا باسترجاع المال المنهوب ولكن من الواضح أن لا أحد استجاب، ولا أموال منهوبة أعيدت للخزينة الخاوية.
يبدو أن الهم الأكبر لدى الساسة الجنوبيين ليس همّ الدولة وقيام مؤسساتها وإنما همّ الصراع مع الشمال الذي طغى على مجمل الأوضاع بالجنوب، فهذا الأمر يأخذ الأولوية على كل عمل داخلي ولكن تناسى هؤلاء أن بناء مؤسسات الدولة أهم من هذا الصراع وأن هناك بدائل أخرى كثيرة عن الدخول في الصراع مع الشمال بسبب الملفات الخلافية قد تعود بالمنفعة إلى الجنوب، فالجنوب منذ إعلانها إغلاق آبار نفطها لم تتحدّث عن البديل لقرار الشمال منع تصدير النفط الجنوبي عبر الأنابيب لبورتسودان في حين أن الشمال اتخذ عدّة خطوات كبدائل للنفط الجنوبي، فهي لا تزال في انتظار أن يسمح الشمال بتصدير النفط في حين أنه كان من الممكن التفكير في بدائل أخرى كثيرة منها تصدير النفط برًا لدول الجوار الخمس التي لا تملك النفط أو البيع الآجل للنفط بالاتفاق مع الشركات المنتجة للنفط.
فمن المهم أن يدرك الجنوبيون أن تفكيك الحزب الحاكم يعني أن جنوب السودان سيُعاني من أزمة عدم استقرار سياسي وأمني ولذلك فإن سلفاكير مطالب بالتعامل الجاد مع هذه الخلافات من أجل ضمان استقرار الجنوب، فالشمال ليس هو السبب في أزمات الجنوب رغم ارتباط الأزمات في البلدين بالملفات المشتركة التي نتجت عن نيفاشا التي حققت للجنوب استقلالها كدولة، فالجنوب تعاني من مشاكل خلقتها سياسات داخلية خاصة بها وإلا لماذا يتمرّد عدد من كبار العسكريين بالجيش الشعبي؟ ولماذا أيضا يهدّد السياسيون بالانفصال من الحزب الحاكم؟.
قضية الجنوب أكبر من مجرّد الصراع مع الشمال، فهي بعدما استقلت فشلت في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي وفي تأمين الغذاء فهي بدلاً من حل الخلافات العالقة مع الشمال عبر الحوار الهادئ دخلت في صراع عسكري وتلاسن سياسي فقدت بموجب ذلك عطف الشمال الذي قرّر إغلاق الحدود ومنع التجارة معها مما زاد من أزمات الجنوب التي لا تزال في انتظار أن تحقق لجنة تامبو امبيكي المدعومة إفريقيًا ودوليًا انفراجًا يسمح الشمال لها بتصدير النفط في حين أن الشمال ربط ذلك بملفات لا تريد جوبا الاقتراب منها ومن هنا جاء التساؤل: إلى أين تتجه دولة الجنوب؟ في ظل هذا الواقع المعقد داخليًا وخارجيًا؟
التعليقات
0 التعليقات
 
وطن السلام | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .